ليلة خريف
حينما أود ان يبدو يومي رائع
اترك الفوضى تحكمني
واترك لخطواتي القيادة..
ذات مساء راودتني أفكار التخلي عن منطق الترتيب والتخطيط..
فرحت ارتدي تجهيزات الاستعداد لجولة عشوائية اصاحب فيها هاتفي..
وبعض طرقات لي فيها بالأمس أثر خطوات..
ركبت المصعد يعلن عن تجاوز ادوار الطوابق في هبوط هادئ.
وانا ألقى نظرة عابرة على تلك المرآة التي تغلف أحد جوانبه..
فلفت اعيني ملامح وجهي التي كانت تبدو أكثر هدوء وكأنها تركت في حجرتي كل الافكار المثقلة بهموم المهام..
فكانت تروق استعدادا لرحلة لم تعلم عنها شيء.
وتوقف المصعد وخرجت من احضان جنباته محملة بتلك الطاقة التي منحتني اياها مرآته
وقد اكتست كل حواسي بحماس واستعداد..
فرحت انطلق كفراشة طائرة كادت اقدامي المتراشقة لا تلامس الاعداد القليلة من بقايا درجات السلم.
وما ان وصلت الي خارج العقار، استقبلتني نسمات متلاحقة الوانها
توحي بأمان يخلق بروحي نشوة عارمة تغطي الطريق كما لو انها تبحث عن رفقاء لليلتها تصاحب خيالتهم وتباهي ابتساماتهم.
شعرت في استقبال الاجواء بليلتي تغمر حواسي
وعدت من جديد لذاك القرار الذي راود الفوضى تصحبني.
وتركت اقدامي تقود لحظاتي، دون أن اهيئ بأي طريق ستمر.
فقد اعتادت ان الطرقات صديقاتي..
كم مررنا هناك مرات انا واحبابي.. كم اشتاقت لها صحبتي ورفاقي.
وإذا بي أجد الطريق يتسع وتأخذ أعمدة الانارة تهيمن على جوانب الطرق تحتفي بالمار وتهديهم الانوار من علياء مكانتها..
واخيرا ذاك الطريق الذي اعرفه ويحفظ من ذكرياتي وايامي وسنواتي،
ذلك الدرب الذي كلما اغيب عنه يصبح غايتي،
فكم تخطيت اركانه بصحبه صديقات، وكم اخذتني امي اليه كما التي تبارك لقاءاتي،
وحينما توجت عشقي كان يشهد اول لقاءاتي،
وحينما اصطحبت كفوف ابنتي كان صحبتي بها عند كل صباح
انه طريق البحر وكورنيش الاسكندرية، الذي هو أقرب افكاري عند كل ذكرى.
ومضيت تلاحقني حكايات واصوات وزحام كل الرفاق. كل الاعزاء.
كما لو كنت في ضيافة طفولتي وصبايا.
امر عند محال باعة الايس كريم فيظهر المشهد الذي كان به سابق زياراتي.
تتطاير سترة رأسي كلما لفحتها نسمات الهواء مع كل شطحات السيارات المسرعة.
فالتفت تسرقني ألوان عربات الاجرة التاكسي.
الوانه المعهودة الجذابة التي تضفي السحر على الطريق.
وإذا بي ان وصلت عند أحد الكافيات التي دام بها جلوسي بصحبة امي عند كل غروب..
جلست بعض الوقت وجاء الجرسون يسألني ماذا أريد أن أشرب.
وقد شق صوته استرسال ذاكرتي..
فانتبهت اليه وقلت: اشرب كافية لاتيه.
فهذا مشروبي المفضل. وما ان مرت برهة الا تذكرت انني نويت كسر عاداتي.
فلحقت كلماتي قائلة: لا، أطلب ايس كريم.
فرغم برودة الجو الا انني اشعر بدفيء يغمر حواسي ويستمتع بلحظات الفوضوية الخلابة..
التي ربما تخللها بعضا من مخزون الذاكرة للماضي العذب المفقود. والذي كاد ان يفسد عليا رحلتي..
ولكني سرعان ما تخليت عن ذاكرتي..
واتي الجرسون بالأيس كريم.
واخذت اتناوله في متعة فياضة وانا اترك مرمي نظراتي تشاهد السيارات العابرة.
وأشاهد المارة في ترقب وكأنني اسير الي جوارهم.
ما ان يمر عاشقان الا وان اكاد اسمع همساتهما واشعر بحنينهما..
فاسرح وابتسم..
وإذ يمر ابوين وطفلة فتأخذ عيناي ترقب اقدامها التي تحجل في سعادة كي تلحق بأبويها لتضاهي خطواتهما.
وأراني استمع لما يدور بخاطرها حين نظرت الي بائع التين الشوكي تريد بعض الحبات ولا يسعفها سرعة اقدام ابويها.
وما لبثت الا وتحولت عيناها الي بائع الذرة المشوي والذي مر جواره بائع الترمس..
واحتارت المسكينة عن ماذا تلح في طلبه.
فأخذت تبكي وتوقفت عن السير حتى استوعب ابويها انها تعلن احتجاجها وطلب ما تريد..
واخذت ارقبها وابتسم..
حتى مر امامي سيدتان تخطي بهن العمر ما زاد عليهن من الوهن في خطواتهن..
وبرغم ثقل أقدامهن إلا أنهن تملأ الابتسامة والدفء وجوههن المشرقة..
وتعلو الحماسة في حديثهن قد يبدو ان الحديث بكل تأكيد عن ايام شبابهن..
كدت أغرق في حكايا المارة.
كما لو أنى فارغة الرأس والفكر..
وإذا ببولة الايس كريم تنتهي..
فشعرت انها استغرقت الوقت القياسي لكل ما تناولت في عمري من ايس كريم..
دفعت الحساب..
ورحت امضي دون هدف..
فأخذتني خطواتي الي اتجاه الشاطئ حيث الرمال، فقررت ان اسير فوق بساط الرمال وكلما ترك الحذاء علامات مروري كادت السعادة تغمرني ..
كما لو انني نجحت في ترك بصمات زيارتي..
حتى تجلت لي فكرة تصوير آثار خطواتي كتذكار عزيز …فأنها ليلة حرة غير تقليدية
حتى مر امامي حافلة ذات الطابقين.
فقررت ان اصعد اليها واجلس بالطابق العلوي..
وزادت الرياح بنسماتها الباردة هدوئي حتى كدت انعس.. ولكني تنبهت ان استفيق
حتى أسجل هذه اللحظات الرائعة بالتصوير.
فكم كان الطريق ساحر وقد تطوقت السماء بلونها الداكن مرصعة بزينة النجوم في مشهد رائع حينما التحمت بأطراف صفحة البحر الذي اخذ من ثوبها اكتماله ..
وصرت انظر الي صفحة السماء واراقب النجوم وارصد أعدادها..
وابتسم لها كلما لاحظت ان العربة تسابقها..
ثم وقعت عيناي على رقم الوقت الذي يرقد يسار هاتفي فاذا بالوقت قد غلبني..
فقررت العودة.
نزلت من الحافلة في منتصف رحلتها علي وعد لنفسي انني سأعاود مجددا باكر يوما جديد..
واستوقفت سيارة اجرة (تاكسي).
الي حيث منزلي..
عاودت أصعد درجات السلم في لهفة وسعادة وقد علت همهمات صوتي بتلك الاغنية التي كنت أرددها في صمت..
فتحت المصعد فاحتضنتني اركانه وكأنما مرآته تنتظرني.
فألقيت عليها نظرة وإذا بي اري صورتي كما لو كنت عدت لسابق صبايا تمتلئ عيناي لمعة واشراق طال ما اشتقت اليها..
وكأني كنت على موعد مع نفسي ولقاء طفولتي..
كم ان للفوضى فضل عودتي …وكم انا ممتنة لفوضتي فقد اعادت لي نفسي …
هنا السباعي
موقع ومضات