تهانى عنانى
قال تعالى (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه) (فاطر 43).
وقال صلى الله عليه وسلم (لا تمكر، ولا تُعن ماكراً فإن الله يقول (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله).
ومن كلام العرب (من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً).
المكر هو إخفاء الأذى، ووصفه بالسيئ لأنه مناف للأخلاق الكريمة ومعنى يحيق أي ينزل بالإنسان شيء مكروه ويُحيط به إحاطة سوء من جميع الجهات فلا يتأثر به إلا صاحبه، وهذه القاعدة القرآنية نجدها في سورة فاطر، فقال سبحانه عن طائفة من المعاندين (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا، اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيْقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلا بَأَهْلِه فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)(فاطر43:42) ومعنى هذه القاعدة باختصار أن الكفار المعاندين أقسموا بالله أشد الأَيْمان لئن جاءهم رسول من عند الله يخوِّفهم عقاب الله ليكونن أكثر استقامة واتباعًا للحق من اليهود والنصارى وغيرهم، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الإسلامي ما زادهم إلا بُعدا ونفوراعن الحق، فكان إقسامهم استكبار في الأرض على الخلق، يريدون به المكر السيئ، والخداع، والباطل، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فهل ينتظر المستكبرون الماكرون إلا العذاب الذي نزل بأمثالهم الذين سبقوهم، فلن تجد لطريقة الله تبديلاً ولا تحويلاً فلا يستطيع أحد أن يبدِّل، ولا أن يحوِّل العذاب عن نفسه أو غيره، وهذا المعنى جاء في آيات أخرى، قال عز وجل (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم)(يونس23)، وقوله تعالى (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه)(الفتح 10)، فقرر الله تعالى أن أسلوب المكر إنما هو منهج من مناهج أعداء الرسل مع الأنبياء والرسل، فقال في سورة الرعد (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)(الرعد 42).
وقال عز وجل (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) (إبراهيم 46)،
والأمثلة الفردية على هذه القاعدة كثيرة منها:-
• قصة مكر إخوة يوسف بأخيهم، قال تعالى (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (يوسف102) فعاد مكرهم على غير مرادهم، وفاز بالعاقبة الحسنة، والمآل الحميد من صبر وحلم.
• وقوله تعالى عمن أرادوا كيداً بنبي الله عيسى (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (آل عمران54).
• وتحايل المشركين لأذية نبينا صلى الله عليه وسلم، قال الله عنهم (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال30)،
ولما كان المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً، والكيد له عظيماً، سلاه الله بآية عظيمة، وأيضاً لكل من يسير على نهجه، ويشعر بكيد الكائدين ومكر
الماكرين، فقال (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)
(النحل127:128).
فمن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون، ولا يقطع إحسانه إلى الخلق، ثم ليبشر بعد ذلك ببطلان كيد الماكرين، وإذا نظرنا إلى هذه القاعدة وآثارهاعلى أهلها في الدنيا والآخرة (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه). فنجد قصة “مؤمن آل فرعون” الرجل الذي قصّ الله خبره في سورة غافر، قال تعالى (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)(غافر 46:45). فنجى الله المؤمن، وأما فرعون وجنوده، فهم الآن منذ أن ماتوا وهم يعذبون وإلى يوم القيامة، فربنا سبحانه يعاقب من خرج عن طاعته بأن يعكس عليه مقصوده شرعاً وقدراً، دنيا وآخرة، فمن مكر بالباطل مكر به، ومن احتال احتيل عليه، ومن خادع غيره خُدِعَ، قال تعالى (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) (النساء 142)، وقال (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه)، فلا تجد ماكراً إلا وهو ممكور به، ولامخادعا إلا وهو مخدوع ولا محتالا إلا وهو محتال عليه.