جني الفنجان
بقلم دعاء زيان
كعادة الصغار نلهو ونلعب ،
ذهبت مع أقراني للعب في شارع حيِّنا المتواضع . كان هاني الأسمر صديقي المقرب، وابن خالتي يحب المغامرة فأقنعني أن نذهب إلي” منزل شفيقة” لنختبئ، ونحن نلعب لعبة ” الاستغماية ” .
منزل شفيقة القابع في وسط حينا لم يزره أنسى منذ أمد بعيد، يمتلئ بالعناكب والفئران ، سقفه وجدرانه مهدمة بعض الشيء . لا أعرف لماذا تركته البلدية أو الورثة بهذا الشكل حتي الآن؟!
دخلنا للمنزل واختبأ كل منا في غرفة مختلفة عن الآخر ،وبعد دقائق جاءني صوت نجلاء أختي : ” خلاويص” وصوت هاني وباقي الصبيان يأتى من بعيد: ” لسه ” .
رأيت شيئا يلمع من بعيد، في ركن من أركان الغرفة ، دققت النظر فوجدت فنجانا للقهوة ، يبدو أن هناك جنيا يعشق الكافيين.
كان يتناوله منذ قليل، الفضول ساقني إليه فاقتربت منه وأنا أرتعد ، أمسكته بإصبعي السبابة والإبهام، فإذ بالقهوة داخله متحجرة ، كيف يلمع وما به متحجر !؟
أخفيته في ملابسي،هرولت عائدة للمنزل، تاركه نجلاء وهاني يكملان اللعبة وعندما رأياني أعدو طلبا مني العودة ،لكنني أخبرتهم بألم لحق بمعدتي ولابد أن أغادر.
ذهبت لوالدتي التي كانت تعشق العجائب، أخبرتها أنني وجدت فنجانا في بيت شفيقة . لم تهتم بأن تري الفنجان، كل ما فعلته أن ضربتني ” علقة ساخنة” لدخولي بيت إبليس كما كانت تدعوه.
عادت نجلاء وانسدل ستار الليل، وأنا ما زلت أخفي الفنجان في ملابسي وبعد أن دقت ساعة الحائط معلنة انتصاف الليل إذ بشيء ساخن يلسعني. أيعقل ذلك؟
أيكون الفنجان ؟!
انتفضت وألقتيه بعيدا عني ،أشعلت ضوء “الأباجورة” بجواري، فرأيت القهوة بداخله تغلي حتي فارت، وما لبثت أن وقعت علي السجادة، ورأيت شيئا صغيرا، يخرج منها، يتحرك، وبدأ في النمو حتي أصبح بحجم نصف الغرفة فشهقت وغبت عن الوعي .
سمعت صوتا يناديني بهدوء : ” لا تخافي، أنا خادمك الأمين، أنا جني الفنجان”؟!
فتحت عيني فوجدت طفلا صغيرا رقيق الملامح يجلس أمامي : من هذا الطفل، وأين ذهب العملاق ؟
أجابني بأنه سيتشكل لي في الهيئة التي تبث في قلبي الطمأنينة . سألته : لماذا وضِع في فنجان وليس في قنينة مغلقة أو مصباح كما كان يحدث مع علاء الدين الشهير، فأخبرني بأنها مجرد روايات تقص علي الصبيان ، فالجن يستطيعون التشكل في أي هيئة يريدونها أو يحبسون في أي مكان وهو سجن من تفل القهوة، ذلك لأنه سخر من ساحرة كانت تحب القهوة منذ ألف عام ، تساءلت وكلى حيرة : هل كان هناك قهوة منذ ألف عام؟
هل يكذب أم أن البشر هم من تأخروا في معرفتها ؟!
الحقيقة لا يهم ، سألني إن كنت أوافق علي أن يكون رفيقي في رحلتي بالدنيا لعدة سنوات، ولكن لن يحقق الأماني، هو فقط سيظهر في سبعة مواقف فاصلة في حياتي، القهوة ستفور وتجسد لي ما سوف يحدث مستقبلا في القريب العاجل، بعدها سينال حريته ، ويعود لعالمه.
توقف عقلي لدقائق : أيعجز الجن عن تحقيق الأماني ؟!؛ أكان ما سمعناه في طفولتنا مجرد قصص؟!! ،أم أن حظي التعس أوقعني في جنيٍ بدرجة موظف درجة ثامنة ، لا يستطيع فعل شيء؟! ، تابعت هواجسي و ظل عقلى يتساءل : كيف سيجسد لي ماذا سيحدث بالقهوة؟!”
التجربة كانت عجيبة فاندفعت فيها وقبلت ولكنه اشترط ألا يعرف أحد بالسر وأن أخبئ الفنجان في مكان آمن، بعيدا عن أعين المتطفلين، وكطفلة في الثامنة كان شيئا مستحيلا ولكنه حدث .
مرت السنوات ونسيت أمر الفنجان حتي أصبحت في الرابعة عشر من عمري وكان أبي يعاني من مرض الفشل الكلوي وحالته تزداد سوءا كل يوم عن سابقه ،جلست أبكي وحيدة في غرفتي ولا أعلم لماذا تذكرت الفنجان . أخرجته واحتضنته فسمعت صوت ينادي من بعيد :
“يا هدى إنني قادم”.
بعد ثواني أحسست بالسخونة فألقيته بعيدا ففارت منه القهوة مُشكلة مشهد جنازة ضخمة ونساء تتشح بالسواد و أمي تفترش الأرض ، وتضع يديها فوق رأسها وتضرب بهما يافوخها .
فجأة تلاشي كل شيء وظهر الجني الصغير ، ملأ الغرفة بزهور الأقحوان وجلس بجواري ، ربت علي كتفي ، سمعت صرخات أمي معلنة رحيل أبي عن دنيانا.
الآن فقط فهمت ما يقصده بتجسد الأحداث بالقهوة.
تكرر الأمر بنفس تفاصيله بعد بضعة سنوات ولكن تلك المرة كان يحمل البشارة بتفوقي، وحصولي علي الليسانس في الاقتصاد بدرجة امتياز .
تزوجت أختي نجلاء ابن خالتي هاني ، بينما بقيت وحيدة حتي سن الثلاثين، لم يتقدم لخطبتي رجل يستحق بالرغم من تفوقي الدراسي؛ فالرجال يبحثون عن الجمال أولا وليس عن النجاح، وأنا فتاة عادية، لا ألفت الأنظار.
جلست أشاهد التلفاز وكان يعرض فيلما رومانسيا لفاتن حمامة وعمر الشريف، يسمي ” نهر الحب ” ، بدأت في مشاهدته ولكنني أحسست بالضجر بعد دقائق ، فلماذا أتابع فيلما يشحن قلبي بالعاطفة، وأنا بلا حبيب؟
قفلت التلفاز وتذكرت صديقي الجني فاحتضنت الفنجان كالمرات السابقة وبالفعل وجدته أمامي ،يبدو أنه يأتي عندما أكون متألمة ، فارت القهوة وشكلت مشهد زفاف ورجل وقور، طيب الخِلقة ،من أبناء الأثرياء ، وقد حدث وتزوجت عبد الله بعدها بشهرين، وحمل لي ثلاث بشارات متتالية بميلاد أولادي الثلاثة فقد جاءني قبل المخاض مباشرة مشكلا لي فرحتي قبل وصولها، فأسميتهم “بشير وبشر وبشارة” وبذلك أصبحت عدد المرات زيارته ست.
مرت الأعوام سريعا، وتزوج أبنائي ولم يزرني صديقي الجني للمرة الأخيرة ، لماذا تأخر ثلاثين عاما ؟
تغير عبد الله منذ مدة قصيرة ، دائما يجري العديد من المكالمات الهاتفية ويخفي هاتفه الخلوي مني علي غير عادته، أكل الشك عقلي، هل يخونني ، ونحن في عمر الستين؟ أيعقل ذلك؟ أم أن الرجال لا يهرمون ويستطيع الرجل أن يخوض مغامرة مهما بلغ عمره ،ويتزوج، هل قلت يتزوج؟!
كيف يتزوج ؟
لقد استولي رضوان شريكه علي كل ما يملك وفر هاربا لدولة أجنبية، وتراكمت علي زوجي الديون، حتي اضطررت لبيع مصوغاتي الذهبية لكي نعيش بكرامة ونتقى ذل الحاجة.
كعادتي البائسة جلست أنتحب وحدي، في قوقعتي الصغيرة، وقد بلغ منى الفزع مبلغه، ولكن صديقي الغائب ظهر أخيرا .
تلك المرة شكلت لي القهوة ظهور شقراء تقف في منتصف منزلنا وعبد الله ينزوي في ركن ، وقد تملكه الهلع عندما رآها .
لطمت خدي ، أبعد كل ذلك الحب والتضحية ينهار زواجي وتقتنص تلك الشقراء زوجي ، جلس الجني بجواري ، قال لي بأنه سيفتقدني للغاية ولابد أن أحرره ولكن قبلها سوف ينفذ رغبة دفينة بنفسي ، وهي رؤية والداي .
بالفعل عاد بي لطفولتي فغرقت بأحضان أمي وأبي وقبلتهما ألف قبلة ،حاولت أن أعوض حرماني لكن الوقت لم يسعفني فصديقي انتزعني منهما، قائلا: هيا، أفيقي .
يبدو أنه كان حلما ولكني ما زلت أشعر برائحتهما وبأثر لمساتهما علي جسدي، فكيف يكون ذلك حلما ؟!
يبدو أنه يستطيع تحقيق بعض الأماني الخفية، عندما يريد ، وبمجرد عودتي نظر لي لثوانٍ وهو صامت ، أجزم أنني رأيت في عينيه حزنا عميقا علي فراقي.
بادلته نظرة الأسى : “اذهب أنتَ حر “؛ فانكسر الفنجان لنصفين، واختفى تفل القهوة بينما تبخر في الهواء، بعدما لوح لي بيده.
مرت دقائق ودق جرس المنزل فأسرعت بفتح الباب، وإذا بالشقراء أمامي وخلفها عدد من الرجال ، اما عبد الله فقد انزوى في ركن عندما رآهم، ممسكا قلبه ؟
وهي تقول بصوت مزعج :
منزل استاذ عبد الله السيد محروس
لم ينطق عبد الله، فأجبت نيابة عنه: أيوه …خير!
أردفت وهي تنظر إليه : جئنا ، أنا والزملاء لتنفيذ الحكم الصادر علي حضرتك، سوف يتم الحجز علي الشقة بكل مقتنياتها.
مجلة ومضات